رؤى من داخل الإدارة

نقل الكفاءات الإدارية بين الأجيال : تراث مؤسسي للدولة

 يشكّل العنصر البشري في المؤسسات العامة العمود الفقري لأي سياسة ناجحة، حيث تتراكم عبر عقود من العمل خبرات وكفاءات وقيم مهنية، تمثل رصيدًا لا مادي لا يقدر بثمن ويطرح في نفس الوقت تحدٍ كبير: كيف نحافظ على هذه الثروة المعرفية والقيمية وننقلها للأجيال الجديدة بشكل منظّم؟ عوض أن نتركها تتبخر وتندثر كلما غادر الأشخاص الذين اكتسبوها.

الأمر يشكل تحديا كبيرا لأنه ليس بمجرد مسألة تدريب مهني، بل هو قضية استراتيجية ترتبط بالحفاظ على استمرارية الدولة وفعاليتها من خلال الإدارة.

فالكفاءات الإدارية غير المادية، ليست معارف او نظريات مجردة يمكن اختزالها في مطويات أو نصوص قانونية، بل هي خبرات تقنية ومهارات إدارية، تكتسبها الأطر العليا والمتوسطة خلال تجربة طويلة ، وتتشكل من الأساليب والحلول التي ابتكروها لمواجهة الإشكاليات التي يطرحها تطبيق القواعد الإدارية على حالات عملية، وإيجاد توازن بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية للمرتفقين.  

هذه الأهمية الاستراتيجية للحفاظ على الرأسمال المعرفي والتقني والسلوكي-الأخلاقي للمرفق العمومي، تتطلب إيجاد آلية مؤسسية دائمة، يكون دورها صيانة تراث المرفق العمومي وضمان نقله بين الأجيال، مع التركيز خصوصا على استمرارية وتقوية ثقافة الانتماء إليه وتبني قيمه الأساسية؛ سواء أولوية خدمة المصلحة العامة أو الانضباط وروح المسؤولية والتضحية وأيضا الشفافية والنزاهة…   
وهي كلها قيم تُكتسب أساسا بالممارسة ولا يمكن نقلها للأطر الجديدة إلا بمعايشة من سبقوهم في الإدارة، وجعلهم يكتشفوها من خلال وضعية عمل وعن طريق محاكاتها وتطبيقها عمليا، لتنغرس قي جزء قناعتهم وتصبح ممارسات طبيعية لديهم. 
وبالعكس فإن استمرار غياب الاهتمام بالحفاظ على الرأسمال الإداري وعدم التأسيس لآليات تحصنه بصفته ملك للمرفق العمومي وتضمن تناقله بين الأجيال، ينجم عنه لا محالة عدة مخاطر تهدد جودة وفعالية الإدارة ومن بينها:  

– الفقدان النهائي للخبرات المكتسبة لمجموعة كبيرة من الأطر  عند مغادرتهم وضياع كلفتها المالية؛
–  ارتفاع وتكرار الأخطاء السابقة وشيوع ممارسات شاذة بسبب انقطاع حلقات التعلم؛  
– ضعف روح الانتماء لدى الجيل الجديد كنتيجة لغياب مرجعية قيمية واضحة ومجربة في وضعية عمل.

ومن أجل مقاربة أكثر عملية نورد المثال الفرنسي كنموذج يمكن ان يحتذى به.

فمنذ عدة عقود انتبهت الدولة الفرنسية إلى كون نقل الرصيد الإداري بين أجيال الموظفين يمكن ان يشكل رافعة للمرفق العمومي، مما جعلها تحدث مجموعة من الآليات المناسبة:

 إحداث “شبكة المدارس العمومية للخدمات العمومية (RESP منذ 1952  تضم حوالي 38 مدرسة مهنية (اللائحة في آخر المقال)، ويتلخص دور الشبكة في السهر على تبادل الخبرات بين الأجيال وتوحيد مناهج التدريب، والحفاظ على الذاكرة المؤسسية للدولة.        

– برامج التوأمة بين الأجيال: تدريب مباشر بين كبار المسؤولين والملتحقين الجدد؛

التوثيق الرقمي: إنشاء قواعد بيانات للأحداث والتجارب الناجحة والفاشلة؛    –

– الندوات والمؤتمرات: مثل تلك التي انعقدت في إيكس أون بروفانس، حول فكرة نقل قيم المرفق العام بين الأجيال؛

– المرافقة (Mentorat): كبار الموظفين ينقلون خبراتهم عبر ورش عمل قبل مغادرتهم الخدمة.

وقد بينت الجهات الموكول لها تقييم مردودية المرافق العمومية أن هذه الإجراءات ساهمت بشكل متميز في الحفاظ على :استمرارية جودة الخدمات العامة من خلال
 بناء مرجعية مشتركة بين الأجيال، تربط الماضي بالمستقبل وتجعل الدولة مالكًا قانونيًا وحارسا للمعرفة المكتسبة خلال الوظيفة.           

أما بالنسبة للمغرب فمن الشائع في الأوساط الإدارية أن غياب هذا البعد الاستراتيجي في سياسة الإدارة العمومية إضافة إلى ضعف التكوين وإعادة التكوين، كان من أسباب تفاقم فعالية الخدمات المرفقية وتدني كفاءات مواردها البشرية، خصوصا بعد حملة المغادرة الطوعية التي أفرغتها من أطرها وخبرتهم المكتسبة منذ فجر الاستقلال، من دون أن نتنقل ولو جزئيا للأجيال التي حلت محلها.        

وتداركا لهذا النقص في المنظومة الإدارية بالمغرب، فإنه من اللازم التفكير في الموضوع بجدية  وسن عدة إجراءات

:تمكن من تجاوزها نذكر منها على سبيل المثال

  •  إدراج سياسة ‘التراث المعرفي’ في قوانين الوظيفة العمومية،
  •  سن إلزامية نقل الخبرات ضمن خطط الموارد البشرية، عبر فترات تدريب إلزامية قبل التقاعد او المغادرة؛
  • إنشاء بنك وطني للكفاءات والخبرات يتضمن قاعدة بيانات توثق تجارب الأطر المتميزة في مختلف القطاعات، خاصة الأمن والقضاء والصحة والتعليم…
  • برامج المرافقة والتوأمة وإحداث منصب اعتماد “مدرب وظيفي” لكل فوج جديد من الموظفين، يسند لإطار يتم اختياره من بين الكفاءات القريبة من التقاعد.
  • الاستفادة من التعاون الدولي في إدارة المعرفة (Knowledge Management)
  • تنظيم مؤتمرات دورية حول الذاكرة المؤسسية ونقل القيم الإدارية.       

وختاما، فإن نقل الكفاءات والقيم بين الأجيال ليس ترفًا إداريًا، بل حاجة وطنية لحماية رأس المال المعرفي للدولة. فالمؤسسات التي تفقد ذاكرتها تصبح عاجزة عن التطوير، أما التي تجعل من خبراتها “ملكية جماعية” فهي أكثر قدرة على مواجهة تحديات المستقبل.

فاعتماد آليات واضحة لنقل الخبرات، سواء عبر منصات رقمية أو التعليم عن بعد أو عبر التدريب المباشر، يُعد حجر الزاوية لبناء إدارة مغربية قوية، تستفيد من الماضي وتستثمره في صناعة المستقبل.

  • إدارة والمجالس المحلية والدولة: CNFPT باريس -ESPMER لوهافر -INET وINSP ستراسبورغ – 
  • IRA :معاهد الدراسات الإدارية في: باستيا، ليون، ميتز، ليل، نانت
  • الزراعة: ENSV مارسي-لي-إتوال -INFOMA كورباس
  • الثقافة والمعلومات: ENSSIB   فيليوربان -INP   باريس
  • المدارس العمومية الحكومية

بشكل أوسع، هناك مجموعة كبيرة من مدارس الدولة المرتبطة بوزارات مختلفة، لكنها ليست بالضرورة ضمن RESP. مثل: وزارة الدولة والمالية: ENFiP، المدارس الوطنية للجمارك، معاهد الإحصاء ENAEE.

  • وزارة البيئة: مدارس ENAC، ENSCG، ENTPE

cahiersdeparcours

زر الذهاب إلى الأعلى